حجم المأساة يجل عن الوصف، ومستوى المصاب يعلو عن التصور؛ فرغم أن عدسات بعض الفضائيات نقلت صور القتل الوحشي والإبادة الجماعية والبطش الحاقد والدمار الهائل والأشلاء المتناثرة وسيول الدماء وهي تملأ شوارع غزة.. رغم ذلك كله إلا أنني أجزم أن ما نُقل كان أقل بكثير من المستوى الحقيقي للمأساة والعمق الواقعي للمصاب، فأهل الأرض كلهم شهود على مجزرة وحشية طاغية يمارسها اليهود أمام سمع العالم وبصره، ولا يردعهم عنها رادع! بل من أنظمة العالم من وصلت به الاستهانة إلى حدِّ التشجيع والتواطؤ!
ومع ذلك كله أرى أن الألم الذي يملأ النفوس، والحزن الذي يعمر القلوب؛ ينبغي أن لا يتحول إلى حالة من اليأس والإحباط، يقيد حركتنا، ويصيبنا بالعجز والوهن، ويجعلنا نستسلم ونركن لعدونا؛ بل الواجب أن نقرأ الأحداث قراءة موضوعية تبرز لنا بقية المشهد الفلسطيني بوضوح وتفاؤل، وتأمَّلوا معي بعض الإيجابيات التي برزت بقوة في ظل تلك الأحزان والمآسي المؤلمة.
أولاً: الثبات والصمود:
ففي ظل الهزائم المتتابعة للأحزاب والأنظمة العروبية التي تحولت شعاراتها الثورية خلال العقود الماضية إلى شعارات باردة لا حياة فيها؛ تدعو إلى ما يسمونه بالسلام، وتصفه بالخيار الاستراتيجي، وتبشر بثقافة التطبيع التي جرَّت الأمة إلى أنفاق الهزيمة والعار، ولم تحصد منه إلا الحنظل والعلقم.. في ظل هذه الأجواء الانهزامية تعود روح المقاومة إلى الشارع الفلسطيني، تحدوها آيات القرآن العظيم، وتسوقها سنن نبي الملحمة - صلى الله عليه وسلم - . وعلى الرغم من الحصار الجائر والتواطؤ الإقليمي والدولي، ثم الحرب والدمار؛ إلا أن أولئك الأبطال يسطرون أبلغ أنواع الثبات والبطولة والاستشهاد، ويستبسلون بكل عزيمة وأنفة، ويتسابق قادتهم وعلماؤهم إلى الصفــوف الأولى فــي المعــركة دون وهـــن أو تخاذل.. أليس هذا مَعْلَماً بارزاً من معالم الاستبسال التي تحيي الأمل والعزة في صفوف الأمة؟
إن الثبات على المبدأ والصبر على تبعاته، والتضحية من أجله، وعدم الضعف أو الاستسلام أو التنازل؛ من أعظم أنواع الانتصار، والأمم والحضارات لا تُبنى إلا بذلك. قال الله - تعالى -: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَـمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: ٤٢].
تحدثتُ هاتفياً مع الدكتور نزار ريان - رحمه الله - القيادي البارز في حركة حماس قبيل المجزرة اليهودية بأسبوع واحد أطلب منه كتابة مقالة للبيان عن الحصار، فقال لي: (نحن الآن في شغل عن هذا.. نحن الآن في رباط، الوقت وقت العمل لا وقت الكلام!)، فسألته عن أحوال الناس في غزة، فقال لي بكل ثقة: (لا تخفْ علينا.. السؤال عنكم أنتم: ماذا قدمتم لأنفسكم؟!).
لقد نجحت المقاومة في فضح مسلسل الخزي والاستسلام، وأعادت الحمية والغيرة إلى الشعب الفلسطيني، والمحن هي التــي تنفــي الخَبَث وتصنع الرجال، وصدق المولى - جلَّ وعلا -: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: ٤٠١].
ثانياً: سقوط الهيبة:
الجيش اليهودي بآلته المتوحشة، وعتاده الطاغي، وأسلحته المحرمة دولياً؛ يقف حائراً عاجزاً أمام كتائب المقاومة بإمكانياتها البدائية وتجهيزاتها المتواضعة. لقد سقطت هيبة ذلك العملاق المتورم الذي كان يختال بقوته وتسليحه، ويرهب الأنظمة القومية والثورية. لقد أثبتت أحداث غزة أن العقيدة الراسخة هي القوة الحقيقية التي تبني الأمم.
في معركة سابقة من معارك العرب أعلن القادة الميدانيون لجنودهم في بعض الجيوش العربية: (ارمِ سلاحك وانسحب!). أما في معركة غزة فقد كان هناك شأن آخر، لقد استطاع رجال الأنفال وآل عمران أن يُسقِطوا تلك الأسطورة المتعالية، ويمرِّغوا أنوفهم في الوحل؛ فهل سيستفيد العرب من هذه التجربة؟
قال الله - تعالى -: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[آل عمران: ٣٧١].
ثالثاً: الحياة تعود إلى الشعوب:
الشارع الإسلامي يغلي من داخله، التجمعات والمظاهرات والمسيرات العفوية تحرك كثيراً من العواصم العربية والإسلامية. أدرك كثير من عوام المسلمين - فضلاً عن خواصهم - أبعاداً كبيرة من طبيعة المعركة مع العدو اليهودي.
مجازر غزة أحيت قلوب الناس، وأحيت القضية الفلسطينية من جديد. لقد اجتهدت بعض الأنظمة والمنظمات العَلْمانية في الترويج لثقافة الخنوع والتطبيع مع العدو الصهيوني، وترويض روح المقاومة، وامتصاص العزة والغيرة من أبناء الأمة، لكن الشارع الإسلامي قال كلمته بوضوح، وانحاز إلى خيار المقاومة، واستهجن لغة التشفِّي الرخيصة التي تحمِّل الضحية المسؤولية كاملة.
نعم! معظم ما يحيط برجل الشارع الإسلامي من مواقف سياسية وإعلامية يثير الإحباط، ويدعو إلى النكوص والاستسلام، الوهن قيَّد الشعوب وأعجزها، لكن رائحة الدماء الزكية والأشلاء المباركة في غزة أيقظت روح الممانعة والمقاومة، ولفظت في ظلها الخطابات القومية والثورية والعَلْمانية آخر أنفاسها، وأصبح الخطاب الإسلامي هو الأقوى تأثيراً، والأكثر حضوراً. ألا يحق لنا أن نقول بعد ذلك: إن المحنة لا بدَّ من أن تحمل فــي ثناياها فرصاً كثيرة؟
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أصبح الجهاد تهمة وإرهاباً، وكان بعض المثقفين والمفكرين يحاول أن يعطي تفسيرات انهزاميه لشعيرة الجهاد، تتلاءم مع المطالب الدولية، وأمثلهم من كان يتحدث عن جهاد الدفع لا جهاد الطلب، أما الآن فالنفس العام للشارع الإسلامي أصبح مختلفاً، لقد تجاوز ذلك الغثاء، وارتفعت لغة الجهاد في سبيل الله.
إن هذا التفاعل - غير المسبوق - من أبناء الإسلام يتطلب من أهل العلم وقادة الرأي والفكر أن يستثمروا طاقات الأمة، ويوظفوا إمكانياتها في برامج عملية داعية إلى نصرة كل قضية إسلامية وإحداها قضية فلسطــين؛ حتى لا تبرد الحمية أو تستهلك أو تبدد في ردود أفعال يمكن أن توظَّف في مجالات أعمق نفعاً وأكثر بركة.
قال الله - تعالى -: {إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِـمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: ٠٤١ - ١٤١].
......................................................................................................................................................